الزهراء منارة العصمة ومدرسة الجهاد

بقلم/علياء الأبيض
فاطمة الزهراء (عليها السلام) محور النبوة ورمز العصمة.. المرأة التي تجاوزت حدود الزمان،مكانة لا يطالها الوصف.
في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ البشرية جمعاء، تقف شخصيات شامخة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتصبح منارات هدى للأجيال. وفي طليعة هذه الشخصيات، تتربع سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ابنة الرسالة، وزوجة الوصي، وأم الأئمة.
إن الحديث عن الزهراء ليس مجرد سرد لسيرة تاريخية، بل هو غوص في أعماق الكمال الإنساني والروحاني. لقد كانت (عليها السلام) النقطة المحورية التي التقت عندها خيوط النبوة والإمامة، والمثال الأسمى للمرأة التي جمعت بين قمة الزهد والعبادة، وبين الشجاعة في الدفاع عن الحق والعدل. إنها الشمس التي أشرقت من بيت النبوة، وظلت إشعاعاتها تضيء دروب المؤمنين حتى يومنا هذا.
-النسب والمقام الروحي: سر “الكوثر”
فاطمة الزهراء هي ثمرة النبوة الطاهرة، والابنة الوحيدة التي بقيت لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد خصها الله بمقام لم يبلغه أحد من النساء، حيث ورد في الحديث الشريف: “فاطمة سيدة نساء أهل الجنة”، وفي رواية أخرى: “سيدة نساء العالمين”.
هذا المقام لم يكن مجرد وراثة نسب، بل كان نتيجة اصطفاء إلهي وطهارة مطلقة. لقد كانت الزهراء جزءاً من أهل الكساء الذين نزلت في حقهم آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾. هذا التطهير منحها مقام العصمة، وجعلها نموذجاً حياً للإسلام في أسمى صوره.
أما لقب “الزهراء” (المشرقة)، فيشير إلى نورها الروحي الذي كان يتلألأ في محراب عبادتها، وإلى علمها الذي كان يضيء لمن حولها. كانت (عليها السلام) تجسيداً حياً لسورة الكوثر، الخير الكثير الذي وهبه الله لرسوله، والذي استمرت بركته في ذريتها الطاهرة.
-منارة العلم والزهد: العابدة والفقيهة
على الرغم من قصر حياتها (حوالي 18 عاماً)، كانت فاطمة الزهراء موسوعة من العلم والمعرفة. لم تكن مجرد راوية للحديث، بل كانت فقيهة ومفسرة، تستمد علمها مباشرة من منبع الوحي. وقد تجلى عمق معرفتها في “مصحف فاطمة” الذي حفظت فيه علوماً وأخباراً، وفي خطبها البليغة التي تعد من أروع ما وصل إلينا من تراث أهل البيت.
وفي المقابل، كانت حياتها مثالاً للزهد والتقشف. عاشت في بيت علي بن أبي طالب (عليه السلام) حياة بسيطة، رغم أنها ابنة سيد قريش ونبي الأمة. كانت تطحن بيديها، وتخدم بيتها بنفسها، وتؤثر الفقراء على نفسها، حتى باتت مضرب المثل في الإيثار، كما في قصة إطعامها وعائلتها للمسكين واليتيم والأسير، التي نزلت في حقها سورة الإنسان (هل أتى).
-لموقف الثوري والدفاع عن الحق: خطبة فدك.
إن القوة الحقيقية في شخصية الزهراء تكمن في شجاعتها السياسية وموقفها الثوري بعد وفاة أبيها. لم تكن الزهراء مجرد امرأة صابرة، بل كانت مناضلة شرسة في سبيل إحقاق الحق والدفاع عن وصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
تجلت هذه الشجاعة في قضية “فدك”، حيث لم يكن النزاع حول قطعة أرض، بل كان دفاعاً عن مبدأ، وتأكيداً لحق أهل البيت في القيادة الروحية والسياسية للأمة. وقفت الزهراء في المسجد النبوي، وألقت خطبتها الشهيرة (الخطبة الفدكية)، التي تعد وثيقة تاريخية وسياسية ودينية بليغة.
في تلك الخطبة، لم تكتفِ بالمطالبة بحقها المادي، بل وجهت نقداً لاذعاً للانحراف الذي بدأ يدب في جسد الأمة بعد رحيل النبي، وذكّرت الناس بمسؤولياتهم تجاه العهد الإلهي. لقد كان موقفها صرخة مدوية في وجه الظلم، ورسالة واضحة بأن الحق لا يسقط بالتقادم، وأن أهل البيت هم حماة الشريعة.
-أم الأئمة: استمرار الرسالة
إن أعظم إرث تركته فاطمة الزهراء للأمة هو ذريتها الطاهرة. هي أم الحسنين، الحسن والحسين (عليهما السلام)، سيدي شباب أهل الجنة، وهما امتداد النبوة وحفظة الإمامة.
من خلال الحسن، تجسدت حكمة الصلح وحفظ دماء الأمة، ومن خلال الحسين، تجسدت ثورة الدم ضد الظلم، والموقف الذي حفظ للإسلام جوهره. لقد كانت الزهراء هي الجسر الذي عبرت منه النبوة إلى الإمامة، وهي الوعاء الطاهر الذي حمل أئمة الهدى الاثني عشر، الذين قادوا الأمة بعد النبي.
الزهراء هي النموذج الخالد
فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليست مجرد ذكرى عابرة، بل هي مدرسة متكاملة في الإيمان، والجهاد، والزهد، والعلم. إنها النموذج الذي يجب أن تحتذيه كل امرأة تسعى للكمال، وكل رجل يبحث عن الحقيقة.
لقد رحلت الزهراء وهي تحمل في قلبها غصة الظلم، ودفنت سراً لتظل شاهداً أبدياً على ما جرى بعد النبي. لكن قبرها المخفي لم يخفِ نورها، بل زادها إجلالاً وغموضاً، وجعلها رمزاً للحق المغتصب الذي ينتظر العدل.
سلام عليها يوم ولدت، ويوم جاهدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حية. ستبقى فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين، والشمس التي لا تغيب عن سماء الإسلام.

