المقالات

مولد القائد مولد للأمة


د/ حمود الأهنومي
في ذكرى مولد سيد العالمين ورسول رب الخلائق أجمعين نتذكره باعتباره الرحمة المهداة والنعمة المسداة من الله الرحيم إلى هذه البشرية التي كانت تتيه في ظلمات الجاهلية المشتقة من الجهل بالله وبشرائع دينه، وتخبط في أوحال الوثنية، وتقتل بعضها لأتفه الأسباب، وتفخر بشرب الخمور، وقتل النفس المحرمة، وكانت تأكل الميتة، ويعتدي القوي منها على الضعيف، فاستطاع بقوة إيمانه وببصيرته النافذة وجهاده القويم الواعي أن يخرجها – وهي التائهة القلقة الحائرة المتزلزلة الخابطة في الفتنة – إلى حيز الوجود في ظهراني التوحيد لله رب العالمين، وفي وجهة التوجه إليه واتخاذ شرائعه ووحيه ودينه مصدرا للسعادة والخير والرحمة ومنهجا للعمل على مقتضاه.
في غضون أعوام قليلة غيّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرى تاريخ البشرية بشكل لا مثيل له في تاريخ الإنسانية، وأعاد الأمة الضائعة في أوهام الجهل، وخرافات الكفر إلى الوحي الإلهي، أخرج منها أمة متحابة مترابطة تدعو إلى دين الله بعد أن كانت تدين بأوثان ربما جاعت فأكلتها، وتجاهد تحت لوائه بعد أن أفنت بعضها قتلا ودمارا، لقد أمّدها بتسديد من ربه بمقومات البقاء والاستمرار والتطور والنماء والقوة والمنعة، ووصل إلى تلك الحالة العظيمة في أبلغ الوجوه وبأقل الخسائر.
يمثّل اليوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرى الأمة العظيمة الذي ينبغي أن تتخذه مناسبة في كل عام لتتمثل الحالة التي تعيشها اليوم والتي قد تشبه حالة الجاهلية من وجه أو آخر، فتكون الذكرى باعثة للتحليق في أجواء النبوة وأخلاق الرسالة وتعاملات الوحي الإلهي ليكون للأمة نصيب وافر وجزء مهم من هذا التراث الإلهي النبوي، والذي يجب أن ينعكس على آمالها وأخلاقها وعلاقاتها، حتى تتخلّق من جديد، وتتولد في أنحائها الوحدة بدلا من الفرقة، والعلم بدلا من الجهل، والرابطة الإسلامية بدلا من الروابط الأخرى، والعزة بدلا من الذلة، والهدى بدلا من الضلال والتيه، والقوة بدلا من الضعف، والعمل الصالح بدلا من العمل السيء، وبه يظهر كيانها الموعود به عند الإيمان والعمل الصالح والاستقامة والسداد، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور 55.
يجب أن تكون ذكرى المولد النبوي مناسبة لحمل مشروع الأمة الواحدة التي تحكم بمنهج الله، وتسلك سبيل العلم والسداد الذي به حياتها ونجاتها وطريقها إلى رضى الله والجنة، ومن أهم مشاريع الأمة أن تنفض غبار الجهل الذي لوّث حياتها، وسمّم أجواءها، واختزل جهودها في السفاسف، وضيّع آمالاها في الترهات، وإنه لمناسبة جليلة أن تتذكر الأمة أنه لا يجوز البقاء في الجاهلية الحديثة التي ابتعدت عن منهج الله، واتخذت لها أندادا من دون شرع الله، فعبدت المادة، وضرعت للأهواء، وسارعت إلى العصبيات الباطلة، واجتلبت مناهج وقوانين ومواقف ورؤى لم ينزل الله بها سلطانا.
يجب أن تكون الذكرى مناسبة لتجديد العهد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يمثله للأمة من أسوة حسنة، وذخر كريم، ومنهج عظيم، ورسول عزيز عليه عنت أمته، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وكان على خلق عظيم، وبهذا يجب أن تتحرك الأمة لغرس قيمة محبته في قلوب المتبعين له وفي عقول الأجيال الصاعدة باعتبار محبته فرضا دينيا يأبى قبول أكاذيب هؤلاء المتربّصين بالإسلام والمفترين على نبيه الكريم على شاكلة الفيلم الأمريكي السخيف والإساءات المتكررة التي يوجهونها إلى أعظم رمز للأمة ليصيبوها في مقتل.
يريد أعداء هذه الأمة إقامة جدار أخلاقي وقيمي وحضاري بين الأمة ونبيها صلى الله عليه وآله وسلم، هذا الجدار قد يكون مبنيا من بعض أخطاء المدعين للإسلام، أو من بعض الروايات السخيفة التي تسرّبت إلى عقول المنحرفين الأوائل عن منهج النبوة الفاضل، فيتخذون من أخطائهم ذريعة للطعن في الإسلام والرسول الكريم، وقد يكون مبنيا على ترهات وأكاذيب لا أساس لها، ولا غاية إلا ضرب الإسلام في أعظم مقوم، وأكرم مصدر له، وحين يستطيعون فك الارتباط القائم بين الأمة وقائدها صلى الله عليه وآله وسلم، حينئذ يستطيعون إيجاد بدائل أخرى لقادات وأسوات يقدمونها للأمة، وحينذاك تكون الأمة قد أضاعت هويتها، وتنكبت سبيل نهضتها، وركبت متن غوايتها، وتقسمتها الأسوات والقدوات المختلفة، هم يريدونها أمة بعيدة عن صاحب هذه الذكرى الجليلة.
آن الأوان إذن لحمل مشروع الأمة الإسلامي من توحيد الله عز وجل بالعبودية والحاكمية واتخاذه الإله الواحد الأحد الذي يجب أن تخضع كل الأهواء لوحيه، وتنقاد كل الآراء لهديه، آن الأوان لحمل مشروع الخير والرحمة والأخوة والسعادة، والعلم والحضارة الإسلامية التي ولدت يوم ولادة أكرم مولود على هذه البسيطة بأبي وأمي هو صلى الله عليه وآله وسلم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى