حين يكون المصحف تاجًا على الرؤوس… لا ورقًا على الرفوف

بقلم/ د نبيل عبدالله القدمي
ليس كل من حمل المصحف عظّمه، وليس كل من قرأ القرآن أدرك مكانته. فبين التعظيم الحقيقي لشعائر الله، ومحاولات التفريغ البارد للقداسة من معناها، حصل معي مشهدين متناقضين مع أختلاف الزمان والمكان.
المشهد الأول في رحاب المسجد النبوي، وبجوار الروضة الشريفة، جلست أقرأ القرآن الكريم. وحين انتهيت، فعلت ما تربّينا عليه منذ الطفولة، وما توارثناه جيلًا عن جيل: قبّلت المصحف، ورفعته على رأسي، ثم أعدته إلى موضعه. فعلٌ بسيط، لكنه مشحون بالمعنى، عميق الدلالة، عنوانه: التعظيم.
لم تمضِ لحظات حتى بادرني أحد مشائخ الوهابية مستنكرًا: ماذا تفعل؟ قلت: لا شيء… قرأت القرآن. قال: وبعدها؟ قلت: قبّلت المصحف. فقال بغضب: هذه بدعة لا تجوز، هو مجرد ورق! هنا تتضح الفجوة…
فحين يُختزل المصحف إلى “ورق”، ويُفرغ من رمزيته وقداسته، لا تصبح الإساءة له أمرًا يستحق الوقوف عنده. فمن يرى المصحف ورقًا، لن يرى الإساءة جريمة، ولن يرى الدفاع عنه شرفًا.
في المقابل، هناك مشهد آخر…
المشهد الثاني يمني خالص، صادق، نابع من الفطرة قبل الفقه، ومن الإيمان قبل الجدل.
يوم الجمعة في ميدان السبعين، كان المشهد ناطقًا بلا خطب ولا شعارات:
شباب من المجاهدين يحملون المصاحف بأيديهم، وكل من يدخل الميدان يقبّل المصحف، يرفعه على رأسه، ثم يدخل.
لا أحد أفتى لهم، ولا أحد لقّنهم… إنها البوصلة السليمة حين تكون القلوب حيّة.
هؤلاء هم الذين يغضبون إذا أُسيء للقرآن، لأنهم يرونه كلام الله لا ورقًا، ويرونه دستور حياة لا غلافًا، ويرونه تاجًا على الرؤوس لا شيئًا يُعاد إلى الرف بلا إحساس.
الفرق شاسع بين من يعلّم الناس أن تعظيم القرآن “بدعة”، وبين من تربّى على أن المصحف لا يُمسّ إلا بإجلال، ولا يُعاد إلا بعد تقبيل.
الفرق شاسع بين مدرسة تنزع القداسة باسم “التوحيد”، ومدرسة تفهم التوحيد على أنه تعظيم لما عظّمه الله.
﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
آية فاصلة، لا تقبل التأويل البارد ولا الجدل العقيم.
لهذا، حين يسأل البعض: من الذين غضبوا للإساءة إلى القرآن؟
فالجواب واضح: رجال اليمن…
الذين يقبّلون المصحف، ويرفعونه على رؤوسهم، ويدافعون عنه بقلوبهم قبل أيديهم.
وهنا فقط… نفهم لماذا يختلف المشهد، ولماذا يختلف الموقف، ولماذا يختلف الرجال.




