تقارير وحوارات

محمد صلى الله عليه وآله وسلم – رحمة للعالمين ومنهج حياة

في عالمٍ غارقٍ في ظلمات الجهل والقسوة، حيث كانت المادية تطغى على الروح، وتُوأد الفضائل، وتُزهق الأرواح البريئة لأتفه الأسباب، بزغ فجر النبوة بقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. لم يكن ميلاده حدثًا عاديًا في تاريخ البشرية، بل كان إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من الهداية والنور، تجسدت فيها أسمى معاني الرحمة الإلهية للعالمين. هذا التقرير يستعرض كيف جاء النبي الأكرم رحمةً للعالمين، وكيف كانت رسالته ومنهجه بمثابة تحول جذري في حياة البشرية، ناقلاً إياها من فوضى الجاهلية إلى نور الإسلام وعدله.

النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: تجسيد للرحمة الإلهية

لقد وُلد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عالمٍ جاهليٍ غارقٍ في الظلمات، حيث كانت القيم الإنسانية في أدنى مستوياتها. كانت القسوة سمة غالبة، والجهل متفشياً، والمادية طاغية. يصف جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حال العرب قبل الإسلام أمام النجاشي ملك الحبشة بقوله: “أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ويسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف”.

هذا الوصف يبرز مدى الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي الذي كانت تعيشه البشرية آنذاك، ليس فقط في الجزيرة العربية بل في أنحاء العالم المختلفة، من الرومان والفرس إلى الهند والصين .

في هذا السياق المظلم، جاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون رحمةً شاملةً للعالمين، كما نصت الآية الكريمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. هذه الآية الكريمة، بصيغتها الحصرية، تؤكد أن جوهر رسالته صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة. فالرحمة هنا ليست مجرد صفة عارضة، بل هي جوهر وجوده ورسالته، وهي التي أرسله الله بها إلى الناس كافة .

الرحمة في الإسلام تتجاوز مجرد العاطفة، فهي مفهوم واسع يشمل الإحسان في جميع مجالاته. إنها تتجلى في أسماء الله الحسنى مثل الرحمن والرحيم، وفي إرسال الأنبياء والرسل لهداية البشرية. وقد تجلت هذه الرحمة في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]. هذه الصفات تؤكد عمق رحمته وشفقته على أمته، وحرصه على هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة .

 

منهج النبي في التغيير والبناء

لم تكن حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجرد دعوة نظرية، بل كانت حركة تغييرية عملية قدمت نموذجاً فريداً في القيادة والإرشاد، لقد وثقت أحداث هذه الحركة بدقة متناهية، مما جعلها منهجاً يحتذى به في كل زمان ومكان.

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الإسلام كمنظومة متكاملة تخاطب العقل والوجدان والسلوك في آن واحد. فكان يتلو آيات الله البينات التي تخاطب العقول وتذعن لها القلوب، ثم يزكي النفوس ويطهرها، ليتفاعل الوجدان مع المعرفة العقلية، وينتج سلوكاً طيباً وسعادة دائمة .

لقد بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجتمعاً قائماً على أسس الرحمة والعدل، حيث نظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والكون من حوله. كان يعلم الناس الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ليصبحوا أمة متكاملة، قادرة على تحقيق السمو والرقي. هذا المنهج الشامل هو ما مكن الأمة من الانتقال من حالة الضلال المبين إلى حالة الحكمة والسمو، وهو ما يفسر الفارق العظيم بين حال الجاهلية وحال الإسلام .

الرحمة في مواجهة القسوة والجهل

في ظل عالمنا المعاصر الذي لا يزال يعاني من مظاهر القسوة والجهل، تبدو رسالة الرحمة النبوية أكثر إلحاحاً. فالقسوة المادية التي تسود اليوم، والتي تتجلى في الحروب والظلم واستغلال الشعوب، هي امتداد لجهل الجاهلية الأولى. إن غياب الرحمة يؤدي إلى قلوب قاسية، لا تنتج إلا الدمار والخراب .

لقد واجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه القسوة والجهل بمنهج متوازن، يجمع بين الرحمة والحزم عند الضرورة. فالرحمة لا تعني التساهل مع الظلم والفساد، بل قد تتطلب أحياناً الشدة والحزم لإزالة أسباب الظلم وتحقيق العدل. فالطبيب الذي يجري عملية جراحية لمريض السرطان، لا يفعل ذلك قسوة، بل رحمة به لاستئصال المرض. وكذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان حازماً مع الكفار والمنافقين، ليس كرهاً لهم، بل رحمة بالمجتمع ككل، لضمان سلامته واستقراره .

إن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى العودة إلى هذا المنهج النبوي الشامل، الذي يغرس محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القلوب والعقول، ويجعلها منطلقاً للتغيير والإصلاح. فمحبة النبي ليست مجرد عاطفة، بل هي التزام بمنهجه وسلوكه، الذي يدعو إلى الوحدة بدلاً من الفرقة، والعلم بدلاً من الجهل، والعزة بدلاً من الذلة، والقوة بدلاً من الضعف، والعمل الصالح بدلاً من العمل السيئ.

خاتمة

إن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو بحق رحمة للعالمين، جاء ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن الجهل إلى العلم. رسالته ومنهجه يمثلان دستوراً شاملاً للحياة، يضمن السعادة والرخاء في الدنيا والآخرة. إن إحياء ذكرى مولده الشريف هو إحياء لرسالته، وتجديد للعهد بمنهجه، الذي هو السبيل الوحيد لنهضة الأمة وتحقيق عزتها وكرامتها في هذا العصر.

 

 

يمني برس | تقرير خاص

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى